ماهية الديمقراطية .........فى النرويج !

أسوأ ما يمكن أن أتخيله فى إنسان أو مؤسسة أو دولة هى مخالفة واقعها لأفكارها والفرق بيننا وبين العالم المتقدم هو أن المسافة بين هذا وذاك ليست دائمة كبيرة لديهم وربما تختص بأمور تاريخية أو عقيدية أما عندنا نحن فالفارق كبير لدرجة قد تصيبنا برذاذ تهمة النفاق أو الغباء !!!


كنت فى زيارة الى النرويج أحد البلدان الاسكندنافية على بحر الشمال حياتها راغدة ونظامها مستقر لأنها فيما يخص شأنها الداخلى واضحة التوجهات حازمة فى تطبيقها حريصة على مراجعة نفسها لمزيد من الرفاهة وهو أمر يرفع قدرها بين الأمم! أما فى الشأن الخارجى ففيه كلام رغم أن النرويج ضمن الدول التى وقفت بجانب الحق الفلسطينى دعما فى محاولة لاستكمال مؤسسات بناء الدولة - رغم حيادها الآن- لكن بعد الاعتداءات الصهيونية التى تمت على غزة اكتشفنا بعض العوار حيث لم نسمع تعليق يدين الهجوم الصهيونى على الفلسطينيين وقتل قياداته لكن سمعنا رفضا لإطلاق الصواريخ كرد فعل فلسطينى نحو المستوطنات الصهيونية !!


وهذا فقط ما أحزنى فى هذه الرحلة التى كانت بدعوة من وزارة الخارجية النرويجية والبرلمان النرويجى بتنسيق كامل مع وزراة الخارجية المصرية لبعض قيادات الأحزاب فى مصر فخرج الوفد المصرى ممثلا من حزب الحرية والعدالة والوفد والإصلاح والتنمية والنور والبناء والتنمية والمستقلين شارك فيها المسلم والمسيحى والبحرى والصعيدى والسيناوى والرجل والمرأة ! وقد لفت نظرى بل ونظر كل الوفد عدة أمور تحتاج من كل الأحزاب ان تعيها وتتفهمها وتسعى لتحقيقها ولايمنع ذلك سوى غياب الإرادة وحالة الاستقرار التى ننشدها منها :


أن حالة الرفاة التى تحياها النرويج إنما هى وليدة  اتفاق الشعب النرويجى على احترام إرادته مما مكنهم من وضع نظام متكامل لإدارة حياتهم جعلوا فيه المساواة والعدالة والحريات والديمقراطية هم رؤوس المواجهة التى استكملت بعد ذلك باكتشاف البترول بكميات كبيرة فى بحر الشمال فلم تكن الثروة منشئة لحياة الرفاة بل مكملة لها


أن هناك إيمان كامل بأن الديمقراطية الحقيقية هى حق الأغلبية فى أن تحكم بدون تخوين أو اتهامات لكن فى نفس الوقت مع ضمان حقوق الأقلية بشكل دستورى وقانونى وشعبى يصعب التلاعب فيه على المستوى الحكومى والبرلمانى  لذا فحكومات التحالفات دائما هى السبيل للحكم عندهم وغير مقبول عرفا أن يستمر حزب فى الحكم أكثر من 8 سنوات


دور الجيش فى النرويج يقر فى البرلمان مع الحكومة وهو بالكامل تحت السيطرة من كليهما  ومازال هناك حوار يتم حول دور الجيش فى الأربع سنوات القادمة من حيث المسئوليات والحجم وأماكن التواجد ! وجدير بالذكر هنا أن المؤسسة العسكرية تحت إشراف وزارة الدفاع بينما مؤسسة الشرطة تحت إشراف وزارة العدل وليس هناك وزارة داخلية ! وكل يعمل فى مجاله فلا يمكن استدعاء الجيش فى أى شأن داخلى بل الشرطة فقط هى المنوط بها الحركة داخل الوطن

أكبر احتياطى نقدى فى العالم للخدمات والمعاشات موجود فى النرويج حيث يتم ضم كافة عوائد البترول مع صرف نسبة بسيطة للمعونات الدولية لا يتعدى 1%


وفى لقاء مع رئيسة حزب المحافظين المرشحة لرئاسة الوزارة القادمة بعد انتخابات 2013 وزعيم الحزب المسيحى الديمقراطى اكتشفنا من خلال وثائق أحزابهم المقدمة الينا أن هناك احترام كامل للدين بل نصت وثائق حزب المحافظين على أن قواعد توجهات الحزب وتقدمه مبنية على الأخلاق والثقافة المسيحية والديمقراطية ودور القانون التى تشجع الحرية الشخصية والمسئولية الاجتماعية    بل قالوا لنا أن الدستور النرويجى الذى وضع عام 1814م وتعديلاته الكثيرة لا يحظر قيام أى حزب على مرجعية دينية ولانص بذلك! بل قالت زعيمة حزب المحافظين أنه من الممكن قيام حزب على مرجعية اسلامية تطالب بتطبيق الشريعة فى النرويج طالما كان ذلك بشكل سياسى وفى إطار القانون !!


لديهم جهاز مدنى للمظالم المدنية وأخر للمظالم العسكرية يحقق فيما يصل اليه وعلى كل مؤسسات الدولة دعمه بالوثائق والمستندات لإعادة الحقوق لصحابها وفى ظله لا ينشغل النواب بالمظالم بل يكيفهم توجيه المتظلم اليه كى يتفرغ النواب لمهامهم الحقيقية من تشريع ورقابة ومناقشة للموازنة العامة للدولة وكلا الجهازين يتبعان البرلمان مع اعترافهم بأن أول من أقام هذه الأجهزة كان العرب فى ديوان المظالم ! ولم يمنعهم ذلك من الاقتباس والاستفادة !


وكان هناك لقاء مع بعض المصريين المقيميين فى النرويج منذ سنوات طويلة كنا حريصين عليه للتواصل وقد كانت لهم تخوفات مما يثار فى الإعلام تم الرد عليها وكانت هناك مطالب مثل :    الدعم لهم فى الغربة خاصة عند الكوارث (الوفاة -القبض عليهم وتكيف محامين عنهم ) كما طالبوا بوضع مادة دستورية تنص على عدم التنازل عن الجنسية المصرية وكذلك إتاحة الفرصة لهم للإستثمار والمشاركة فى المشروعات الكبرى بمصر وقد اطمأنوا كثيرا بعد الحوار الذى دار معهم من كافة التوجهات التى مثلها الوفد المصرى


الموضوع الأخير والذى أعتبره من أهم الموضوعات التى ناقشناها هناك هى قضية التحالفات بين الأحزاب وكانت تجربتهم التى أرجو أن يستفيد منها الجميع أغلبية وأقلية تتلخص فى نقاط:

1- النجاح فى انشاء علاقات شخصية بين قيادات الأحزاب لتبادل الأراء والمعلومات ومناقشتها للوصول للخيارات الأفضل قبل الانتخابات


2- لابد من التأكيد على أن كل الأحزاب المتحالفة مشاركة فى أى نجاح أو انجاز يتم لاستنفار الجهد فى مواجهة التحديات ويمكن أن نتفق أو نختلف لكن يجب أن تبقى فى حدها الأدنى دون خسائر


3- فى الانتخابات وجب ابتعاد القيادات عن التجريح أو مهاجمة الأحزاب الأخرى لترك الفرصة متاحة للتحالف وهو تحدى جديد أثناء الانتخابات


4- بعد الانتخابات وجب أن يكون للحزب الأقوى رؤية واضحة ليتم التحالف بناءا عليهامع الأحزاب الأصغر ويحظر التعامل مع الأحزاب كأنها أعداء مع ضرورة وجود علاقات شخصية بين قيادات الأحزاب المتوجهة للتحالف


5- دور المعارضة الهام فى كل الديمقراطيات فليس دورها هو صناعة الأزمات أو وضع العراقيل بل يجب أن يكون ترقب وقياس وتوضيح أى عوار فى الأداء بعد متابعة دقيقة له


6- ومن الواجب على الغالبية أن تهتم بأخذ رأى الأقلية والاتصال الشخصى أحيانا بقياداتها من المسئولين وزراء وغيرهم لمناقشتهم واحترام رغبتهم فى معرفة ما يدور مع إقامة علاقة انسانية تهتم بهم وتتواصل معهم مما يحسن من شكل الأداء ويبقى على التوازن المطلوب بين الحكومة والأحزاب والبرلمان


عدنا جميعا ونحن ندعو الله أن يوفق مصر قيادة وشعبا وأحزاب فى سعيهم للإستقرار والنهضة ومصر مؤهلة لذلك بقوة بعيدا عن غرور القوة ونرجسية الفكر


دكتور محمد جمال حشمت

استاذ جامعى ونائب بالبرلمان

19 نوفمبر 2012م

إضافة تعليق