التحامل على الإخوان وأخلاق الفرسان ـ د. محمد جمال حشمت

لا يشغلني ولا يزعجني كثرةُ النقد الموجَّه للإخوان من حيث الأداء والقناعات التي تنتاب البعض من المحسوبين على الإخوان، فكل ذلك علامة صحة على المناخ الذي يسمح بالنقد وبالرد عليه، بل تأكيد على تقبل الإخوان للنقد والرد عليه سواء بالتصحيح أو بالتوضيح، لكن ما يحدث منذ عشرات السنين- وهو أمرٌ يخص الإخوانَ فقط رغم تغيُّر الأنظمة والقيادات- ليس له علاقةٌ بما سبق، فلا المناخ صحي بحيث يسمح بحوارٍ بين كافة الأطراف، ولا النقد موضوعي وله ما يبرره، وأخطر ما في هذا الحال هو تشويه فصيلٍ وطني محبٍّ لوطنه ودينه، وله تاريخه واجتهاده، لذا فما يشغلني هو حجم الصدق فيما يُقال نقدًا للإخوان قد يتجاوز الحقيقة، حيث تصبح كلمات التحريض هي مصدرَ المعلومات ومجال النقد، ولا شك أن كثيرًا ممن يتناولون الإخوان بالنقد تتجمع لديهم المعلومات من الصحف أو من تقارير الأمن التي لا همَّ لها سوى تشويه صورة الإخوان أفرادًا وجماعةً، أضف إلى ذلك عدم معايشة الإخوان أو التعرف عليهم عن بُعد، وهو ما يجعل ما يتناولونه بالنقد فاقدًا للمصداقية، وأنا هنا لا أقصد مخبري الصحافة العاملين بتوجيهات أجهزة الأمن وإشرافها أو الحاقدين على الإخوان لمواقفَ شخصيةٍ وحزازات نفسية، بل أقصد الكتَّاب والسياسيين المعتبرين المحترمين المعروف عنهم تحري المعلومة والخبر قبل التعليق عليه أو حتى نقله وترديده، وهم عددٌ لا بأس بهم، أجد أنَّ الحلَّ هو أن يتعرَّفوا على الإخوان عن قُرب قبل أن يتناولوهم بالنقد والتجريح، فعندئذ يصبح لحديثهم قيمةٌ أكبر، وتكون مراجعة النفس وإعادة النظر فيما كان واجبةً عندئذ.


على سبيل المثال ما زال البعض من هؤلاء يتحدثون عن الإخوان كمن يستغل الدِّين في حركتهم، بل في حديثهم بصورةٍ ترهب من أمامهم، وتجعل من الدين شومةً تقرع رأس المخالفين، وهو ما لا يمكن لأحد أن يجدَه في أدبيات الإخوان، ولعل فكر الإخوان الذي يستمد مرجعيتَه من الإسلام فتنطلق منه الأفكار وتتأصَّل من خلاله المعاني يكسبهم هذه المسحة، وهم يتساوون في ذلك مع اًصحاب أي مرجعية أخرى اشتراكية أو ماركسية أو ليبرالية أو مهلبية كالحزب الوطني في مصر الذي يجعل من رئيسه زعيمًا ملهمًا ومن أحاديثه ووعوده ثوابتَ يُشار إليها، ومن فكره- حتى لو تغير كل ساعة- مرجعيةً تاريخيةً، فلماذا يُلام الإخوان على مرجعيتهم الإسلامية التي جمعت الدنيا والآخرة، وأرست القواعد العامة في كل مناحي الحياة، وأقرَّت ثوابت يبدع من خلالها الفكر والعقل الإنسانيَّان؟ لماذا تفزع الرءوس عندما يذكر الله ورسوله في إطارِ المرجعية لا في إطار الطرح والاجتهاد البشري القابل للنقد والأخذ والرد؟ هل المطلوب من الإخوان في كل حديث أن يقولوا (كما ذكر ونبَّه وطبقًا لتعليمات سيادة الرئيس)؟! وهل طبقًا لتوجيهات الزعيم هي الحلال الكامل لمَن يرغب في المشاركة في بناء الوطن؟ ورغم أن حصيلة تعليمات الرئيس وتوجيهاته بشهادة كل مراكز الدراسات والبحوث والإحصائيات محليًّا ودوليًّا هي صفر كبير، إلا أن التحامل على الإخوان ما زال قائمًا، وكان آخرهم الأستاذ هيكل.


ورغم ما نكِّن له من احترام لحرفيته في مهنته وتاريخه الصحفي فقد تكلَّم عن الإخوان كلامًا مرسلاً لا يليق به وتحدَّث عن وقائعَ لم يعايشْها، لذلك كان رد الأستاذ المرشد عليه موجزًا في جريدة الدستور، وأنا هنا أحب أن أذكر أن الإخوان لم يتغير فكرُهم منذ نشأت جماعتُهم عام 1928م، فثوابتهم من الإسلام الذي لا يتبدل، ولا يؤمنون بالعنف سبيلاً، ولا بالتكفير منهجًا، يطالبون بحكم يضمن الحريات ويصون الأعراض ويحمي الأخلاق ويقود الإبداع لرفعة الوطن، وهم منذ أكثر من ستين عامًا ينادون بنظام دستوري برلماني يأتي بانتخابات حرة تحاسب أكبر رأس في الدولة، وتملك عزله إذا خان أو غدر أو فرَّط في حقوق الشعب والوطن، وما يظنه البعض حديثًا في خطاب الإخوان من كون الشعب مصدرَ السلطات وحق المواطنه وغير ذلك فهي أمورٌ مستقرةٌ فقهًا وتاريخًا، وقد علم موقف الصحابة والخلفاء (لقد وليتُ عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأطيعوني، وإن أسأت فقوموني).


ومعلومٌ أن وثيقة المدينة المنورة كانت أولَ وثيقة مواطنة في التاريخ (المسلمون واليهود أمة على مَن سواهم).. هذا موقفهم الذي استحقوا بناءً عليه كلَّ هذا التحامل جهلاً أو كرهًا، ولعل الأستاذ هيكل يذكر كتاباته قبل الثورة وكيف تغيَّرت بعدها، وكيف كان موقفه من الملك فاروق، ولعل ما نُشر مؤخرًا من رسالةٍ وجَّهها الأستاذ هيكل للملك في يوم عيد ميلاده ما يدعو للعجب من تحامل الأستاذ على الإخوان واتهامهم بأنهم قد احتموا بالملك، فكيف لهم وقد دفعوا ما دفعوه من ثمنٍ غالٍ أن يحتموا بهالك، وإذا كان هذا صحيحًا فلماذ قَتَل الملك حسن البنا وهو في حمايته؟!!


يقول الأستاذ هيكل- في خطابه للملك فاروق في الذكرى الثامنة لجلوس الملك على عرش مصر-: هذه هي الذكرى الثامنة لجلوسك يا مولاي على عرش مصر، ثمان سنوات وأنت تحمل مسئولية هذا الوطن وهذا الشعب، كنت فيها نِعْمَ الملك الدستوري في ظروفٍ لعلها أدق ما مرَّ بها في تاريخ حياتها، أو ليس الفاروق هو الذي قال ذات مرة: إنني أحب قيادة السفينة أثناء العاصفة.. في عيد ميلادك تركت قصرك وعاصمة ملككك وذهبت إلى الصعيد لتزور جزءًا من شعبك حلَّت به نكبة المرض، وقلت إن أحسن احتفال بالعيد هو أن ترى هؤلاء البؤساء ويروك.. وقد قال لي مسيو ليجول رئيس تحرير البورص: إن مصر محقةٌ أن تحبَّ مليكها كلَّ هذا الحب، فهو جنتلمان حقيقي، ولن أنسى أن أحد الضباط الأمريكان رآك يا مولاي في إحدى الحفلات فلم يملك نفسه وهتف "فليحفظ الله الملك"، وبعدها قال لي هذا الضابط إنه لم يكن يتصور أنه سيأتي عليه يوم يهتف لأحد الملوك، وهو الذي وُلد جمهوريًّا متعصبًا، وقال لي: إنني لم أهتفْ حتى لروزفلت نفسه، ولكن ملككم هذا رجلٌ عظيمٌ، ثم ختم مقاله بقوله يا مولاي.


هذه ثمان سنوات وأنت وهذا الشعب معًا تتقاسمان السرَّاء والضرَّاء، وتسيران في طريق الحياة بأزهارها وأشواكها وستبقيان معًا إلى الأبد؛ لأن هناك رباطًا من الحبِّ، يوثق بينكما.. رباط من الحب الخالد.


هكذا يخاطب صحفيو اليوم نظام الرئيس مبارك، فلماذا يعتب عليهم، ومَن من الإخوان قال مثل هذا للملك حتى يمتعهم الملك بفرض حمايته عليهم كما ادعى الأستاذ هيكل.


إن الإخوان المسلمين بشرٌ يسري عليهم ما يسري على الناس، ولكنهم أكثر الناس ابتلاءً وظلمًا، لا ينصفهم إلا كريم ولا يدافع عنهم بالحق إلا صادقٌ، ولا ينصحهم من قلبه دون أن ينضم إليهم إلا رجلٌ شهم مخلص، فالحملة عليهم من الحكومة والمعارضة معلنة بأشكال متعددة تهدف في النهاية إلى تغييب الحماعة أو على الأقل تهميشها وتقليم أظافرها رغم أنها لم تعادِ أحدًا، بل ترجو الخير لمصر والمصريين أبناء الوطن الواحد، ولم تدَّعِ العصمةَ ولم تتترَّس خلفَ المقدس، فكل ما قيل وما زال يقال هو أوهامٌ وأكاذيبُ لم يثبت صحتها، والله سبحانه فقط هو المدافع الحق عمن ظُلموا، فالكريم الصادق المخلص هو ذاك الفارس صاحب أخلاق الفرسان الذي ننشده وسط هذا المناخ الظالم الفاسد فقط كي ينصف من يستحق الإنصاف، والله لا يحب الظالمين.

إضافة تعليق