مصر : بين مسارات الانفجار الداخلي والتجاهل الخارجي

زار المشير عبد الفتاح السيسي الأربعاء الماضي دولة الإمارات العربية المتحدة لطلب مواصلة الدعم لنظامه الذي أصبح يواجه صعوبات مالية خانقة مع تراجع في الآونة الأخيرة في قيمة المساعدات المقدمة وخاصة من الامارات والسعودية والكويت. ويأتي هذا مع تزايد التشاؤم لدى المانحين والداعمين الغربيين وتزايد التساؤل حول قدرة النظام على التواصل والايفاء بالتعهدات وهذا ما نشر أخيرا في العديد من التقارير التي تنظر بتشاؤم كبير للوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في مصر.


وأكد العديد من التقارير الاقتصادية والاعلامية المعروفة أن النظام لا يملك رؤية واضحة لمستقبل الوضع الاقتصادي في البلاد وانه يسعى فقط للحصول على الأموال وتوفيرها لسد العجز ومواجهة التضخم وربح الوقت. وحذر العديد من التقارير من الانفجار الاجتماعي خاصة في ظل غياب الأفق السياسي والمدني القوي.


وشككت هذه التقارير في قدرة الدولة على التواصل والايفاء بالالتزامات واعتبرت أن الانطلاق لن يحصل مع غياب ثقافة العمل والشعور بالأمان، الأمر الضروري لزيادة الانتاج والجودة وبالتالي نيل ثقة المستثمرين والمانحين والداعمين.


كما تزايدت المصاعب في الآونة الأخيرة وأصبح النظام شبه معزول على الساحة الديبلوماسية وتلاشى الدور المصري التاريخي والمؤثر في المنطقة والإقليم. فقد أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اليوم أن "تركيا وروسيا قادرتان على اتخاذ خطوات كفيلة بتغيير مصير منطقة الشرق الأوسط". هذا فضلا عن النفوذ الإيراني المتزايد في ظل غياب شبه كامل لأي دور عربي وخاصة مصر الدولة الأكبر.


وفي الولايات المتحدة، تتوجه الإدارة الأمريكية إلى تخفيض المعونة الاقتصادية السنوية التي تقدمها لمصر بمقدار النصف حتى وإن كان المبلغ المعني صغيراً ولكن دلالته ذات شأن. ويحذر العديد من المنظمات الفاعلة الاتحاد الأوروبي من "التطبيع" مع نظام "الانقلاب".


وقضت المحكمة الفيدرالية السويسرية العليا خلال الأسبوع الماضي بتغريم القاهرة ملياري دولار لصالح شركة الكهرباء الإسرائيلية على خلفية "خرق العقود السابقة" المبرمة بين الجانبين لتوريد الغاز المصري إلى إسرائيل. وإذا ما تأكدت مسؤولية الدولة المصرية فإن التخوف الحقيقي هو أن يتمكن اللوبي الإسرائيلي من وضع اليد على الأموال المصرية المهربة للخارج والمجمدة في سويسرا.


ونذكر هنا ببعض الأمثلة التي تدلل على الصعوبات التي تعيشها مصر حاليا ودخول النظام في معارك جانبية مع المنظمات والأشخاص والعديد من الدول على خلفية ملفات كان من الممكن معالجتها بشكل جذري في إطار وطني يقوي الدولة داخليا ويحميها من التهميش والتبعية الاقتصادية. وتبيّن بعض هذه الأمثلة ضعف التأثير المصري في المنطقة وانطواءه واكتفاءه بلعب أدوار هامشية مما أضعف الموقف العربي في مواجهة الأجندات الأجنبية والإقليمية في المنطقة.


- التقى بالأمس فائز السراج "رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني" بالمشير خليفة حفتر الذي تسيطر قواته على العديد من المناطق في ليبيا واتفق الرجلان خلال لقاء جمعهما في العاصمة الإماراتية أبوظبي على تسوية معظم النقاط الخلافية بينهما. ولعل أهم النقاط هي توحيد الجيش الليبي، ورفض التدخل الأجنبي، ووحدة ليبيا، ومكافحة الإرهاب. ويأتي هذا الاتفاق يوما واحدا قبل وصول المشير عبد الفتاح السيسي أبو ظبي وللتذكير فان خليفة حفتر رفض منذ أسابيع قليلة لقاء السراج في القاهرة.


- حرصت إيران منذ مدة على إشراك مصر لتقوية موقفها تجاه تركيا في الملف السوري وطلبت إلى الروس دعوة مصر بصفة مراقب لحضور اجتماع لوزان حول سوريا. وكان التمثيل المصري ضعيفا ولم يخرج عن عباءة ما رسمه الإيرانيون من توجهات. ويحدث هذا بعدما كان التعويل كبيرا على مصر بأن تلعب دورا فاعلا ومحوريا في حل الأزمة السورية في عامي 2012 و2013. وللتذكير، فإننا عملنا على وضع خارطة طريق بين مصر وإيران لحل الأزمة السورية خلال فترة حكم د. محمد مرسي ونشرنا وثيقة التفاهم تلك.


- سعى النظام المصري إلى تصنيف الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية سواء في بريطانيا أو أمريكا إلا أن كل تلك المحاولات باءت بالفشل. فبعد التقارير الأمريكية وتقرير لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان البريطاني، رفض المبعوث الأممى لدى ليبيا مارتن كوبلر الأسبوع الماضي، وصف الإخوان بالجماعة الإرهابية وصرّح بأن الإخوان جماعة سياسية سلمية وأن الأمم المتحدة لديها اتصالات مع جميع دول الجوار والمنظمات السياسية داخل وخارج ليبيا ومن بينهم الإخوان.


- أكد العديد من التقارير ذات المرجعية في السياسة الدولية أن دولة الإمارات العربية المتحدة هي من تستعمل مصر لدعم خليفة حفتر في ليبيا وأن تدخلها في اليمن جاء لإرضاء السعودية، كما أن تغيير الموقف من نظام بشار الأسد جاء لإرضاء الروس ونكاية في إدارة باراك أوباما التي جمدت جزءا صغيراً من المساعدات تحت ضغط منظمات حقوقية دولية. وبعد انتخاب ترامب، تغيرت السياسة في اتجاه جديد.


- أعلن عدد من الباحثين والخبراء أمام إحدى اللجان في الكونغرس الأمريكي أنَّ السلام بين مصر وإسرائيل مستقر على المستويين العسكري والاستخباراتي ولكنهم اعترفوا بأن هذا "السلام' بقي باردًا على المستوى المدني وهو ما يفيد بوجود هوة تفصل النظام عن واقع الشعب. وفي الوقت ذاته، تحدث ثلاثة خبراء أميركيين في شؤون منطقة الشرق الأوسط، في جلسة استماع عقدتها اللجنة الفرعية للاعتمادات في مجلس الشيوخ الأميركي، عن صورةً كئيبةً ومفزعة عن الأوضاع في مصر. فقد أجمعوا على تدهور الأحوال الأمنية والاقتصادية والسياسية منذ وصول عبد الفتاح السيسي إلى السلطة في 2013. واعتبروا أنه حان الوقت لكي تقوم الولايات المتحدة، التي دفعت 77 مليار دولار من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين منذ عام 1979 على هيئة مساعدات أمنية واقتصادية إلى مصر، بإعادة النظر في نهجها حيال مصر.


- أما تركيز الرئيس الأمريكي خلال لقاءاته بالمشير عبد الفتاح السيسي على الدور المصري لحماية أمن اسرائيل وتأكيده على أن التقارب الأمريكي مع مصر مدفوع بالتقارب المصري مع إسرائيل ففيه الكثير من التقزيم لدور مصر التاريخي. وأما حديثه عن أهمية العمل بين الأطراف الثلاثة لإنهاء كل ما يتعلق بـ«الإرهاب الناتج عن التطرف الإسلامي" - متجاهلا ما يقوم به المستوطنون والجيش الإسرائيلي بحق الفلسطينيين أو ما قام به الجيش الأمريكي بحق العراقيين والأفغان - فهو انحياز واضح واهانة للشعب المصري ومكوناته الحية.


- طالب العديد من المنظمات الدولية الاتحاد الأوروبي بتقليص التعاون مع مصر وبدأت هذا الأسبوع حملة قوية في أروقة البرلمان الألمانى للمطالبة بعدم التصديق على الاتفاق الأمني بين الحكومة الألمانية ووزارة الداخلية المصرية في مجال مكافحة الإرهاب وتبادل المعلومات، معتبرين أن وزارة الداخلية لا تحترم حقوق الانسان.


- جرى إخراج مصر أو تقزيم دورها في الملفات الكبرى كالقضية الفلسطينية أو الملف العراقي والسوري وأخيرا الملف الليبي وأصبح السلوك السياسي للنظام وممارسات القضاء هي مادة إمّا للسخرية والتندر أو الإدانة والشجب، وهذا كله لا يليق بالدولة العربية الأكبر التي أصبح نفوذها شبه منعدم.


ويكفي الرجوع إلى حجم الردود التي أعلنت عنها الخارجية المصرية خلال الآونة الأخيرة لندرك بأن الأمور لا يمكن أن تتواصل على هذا النحو.


فمن الرد على لجنة الخارجية في البرلمان البريطاني حول النظرة للإخوان المسلمين وكيفية التعامل معهم واتهام رئيس اللجنة بالتحيز للإخوان إلى الرد على جلسة الاستماع التي نظمتها اللجنة الفرعية للاعتمادات الخارجية لمجلس الشيوخ الأمريكي بشأن مصر مؤخرًا، وما تضمنته من مطالبات من جانب الشهود الذين استمعت إليهم اللجنة بضرورة إعادة تقييم برنامج المساعدات الأمريكية لمصر على ضوء الاتهامات بوجود انتهاكات لحقوق الإنسان واتهام مصر للأعضاء الذين استمعت اليهم اللجنة وتنديدها بما اعتبرته الخارجية المصرية تحيزا وتحاملا على النظام المصري القائم.


وردت مصر بعنف منذ يومين على تصريحات مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان مما جعل الأمم المتحدة تعلن أن القرار الذي أخذه المفوض السامي تمت مناقشته في المجلس ووافق عليه معظم الدول الأعضاء. فقد رأى التقرير الأممي المعني أن الإجراءات الأمنية في مصر تغذي الإرهاب والتطرف، وذكّر بأن الحفاظ على الأمن يجب ألا يكون على حساب حقوق الإنسان، وتحدث عن حالة الطوارئ والاعتقالات العشوائية بأعداد كبيرة، والحملة الصارمة على المجتمع المدني متمثلة في قرارات المنع من السفر وأوامر تجميد الأرصدة، وقوانين منع التظاهر ورأى أن تلك الممارسات تسهل التطرف في السجون وتغذي الإرهاب، فكان رد الخارجية المصرية موجها إلى شخص المفوض السامي ونددت بما اعتبرته "سعي قوى ومصالح أجنبية للإساءة إلى مصر، بهدف زعزعة استقرار مصر وأمنها".


وفي الأسبوع الماضي ردت مصر على السعودية بسبب ما جاء في تصريح المتحدث باسم قوات التحالف العربي في اليمن اللواء أحمد عسيري والذي ذكر فيه بأن مصر عرضت في السابق إرسال 40 ألف جندي إلى اليمن.


وردت أيضا على السودان التي رأت أن مصر دعمت استمرار فرض العقوبات الدولية على السودان بسبب الأوضاع في دارفور، فأكدت مصر أنها «قامت بدور فعال في اعتماد قرار متوازن في مجلس الأمن يحافظ على المصالح العليا للشعب السوداني. ويأتي هذا على خلفية التباين في مواقف الدولتين في ملفات منها سد النهضة، ومثلث حلايب وشلاتين، والموقف من الوضع في ليبيا. وتوترت الأوضاع أكثر بعد قرار السودان فرض تأشيرة دخول على المصريين الذكور من سن 18 إلى 49 عاما، وتحصيل رسوم من المغادرين المصريين ونددت السودان بالسماح للمعارضين للحكومة السودانية بالنشاط على الأراضي المصرية، وكذلك الحملات الإعلامية ضد السودان.


صحيح أن مصر لم تعد كما كانت في السابق دولة مؤثرة، عربيا وإقليميا، وأنها تعيش أوضاعا غاية في الصعوبة متمثلة في الركود الاقتصادي، وبطالة متصاعدة في صفوف الشباب ناهزت نسبة الـ45 بالمائة ، وارتفاع كبير للأسعار، والفساد المتفاقم، زيادة على عنف وبطش المؤسسة الأمنية، والشعور المتزايد بالبؤس والإحباط، ولكن على الفاعلين حكومة ومعارضة الاستعداد لما هو أسوأ لأن الانفجار الشعبي و'ثورة الجياع" التي يعتبرها العديد من المراكز البحثية حتمية، سوف تكون كارثية على الجميع في ظل غياب أحزاب فاعلة ومجتمع مدني منظم لترشيد تحركات الشارع وعقلنتها.


وانتكاسة المسار المصري الذي يمثل إهانة للشعب المصري والعربي عموما، لا يخدم إلا مصلحة أعداء الأمة، وعليه وجب تشجيع كل المبادرات الخيرة من أجل إيجاد حل سياسي في البلاد يعيد السلطة للشعب والكرامة للمواطن من خلال سياسات عادلة تعتمد التصالح مع الشعب وإصلاح المنظومة، وإلا فإن الانفجار سيكون واقعا لا محالة.


وعلى صانع القرار أن يدرك أن الدول الغربية والديمقراطية تعتمد في صياغة مواقفها على تقارير سفاراتها ومراكز أبحاثها وتأخذ في الاعتبار في الغالب ما تنشره منظمات المجتمع المدني المعروفة أو ما ينقله الإعلام لديها. أما في الجانب الاستثماري فان تقارير الغرف التجارية ومجالس الأعمال والائتمان هي التي يعتمدها ويبنى عليها المستثمر قراره. وأما ردود الخارجية المصرية على تقارير المنظمات الدولية واعتبارها أنها تنفذ أجندات و"سياسات معادية للدولة المصرية وتنحاز لمصالح المجموعات الإرهابية" فلن تغير من الواقع شيئا ولن تزيد الاستثمار بل ستزيد من عزلة النظام وتحرج شركائه بدرجة أكبر وهو الأمر الذي لا يتحمله الكثيرون.


ومن العبث توقع نتائج ملموسة تغير من الصورة الحالية من خلال مكاتب التسويق أو التواصل مع مراكز صنع القرار في أمريكا، سواء كان الكونجرس أو الخارجية الأمريكية أو الدول الغربية ، ولا الرد على التقارير الأممية واعتبار ذلك حملات تشويه موجهة ضد مصر، والعمل على "توضيح سوء الفهم"، وتحسين صورة ملف حقوق الانسان بل يجب العمل على حل جذري قبل فوات الأوان على الجميع.


ويجب أن نذكر هنا أن مصر هي الدولة العربية الأكبر ومن المفترض أن تكون هي الحاضنة الطبيعية لأي مشروع في المنطقة، سواء كان وطنيا مقاوما أو مشروع تسوية وسلام أو إعادة ترتيب للمنطقة أو خضوع واستسلام. ولكن الحالة التي وصلت إليها أرض الكنانة اليوم تبعث على الحيرة والتساؤل عن المآلات والمسارات الممكنة في ظل استماتة القوى المعادية، وفي مقدمتها قادة وداعمي الاحتلال الإسرائيلي في الدفاع عن نظام المشير عبد الفتاح السيسي، وتخويف الغرب من تبعات انهياره.

أنور الغربي

باحث في العلاقات الدولية

إضافة تعليق