الفرصة الأخيرة ـ دكتور محمد جمال حشمت

 19 - 2 - 2006

لم يكن رئيس مجلس الشعب المصرى مرتاحا لمناقشة بعض التعديلات الدستورية التى تمنح عملية الإنتخابات الحصانة اللازمة لضمان عدم العبث بها منذ فتح باب القيد ومراجعة كشوف الناخبين حتى إعلان النتائج بعيدا عن تدخلات الحكومة والأمن وبما يمنح القضاة إستقلالا حقيقيا يسمح لهم بالإشراف على الإنتخابات دون أى إعتبارات سياسية فى مناخ تسوده روح العدالة والشفافية والنزاهة المفقودة منذ زمن طويل فى مصر, خاصة عندما قام أحد نواب الإخوان يعترض على تشكيل لجنة الإشراف على الإنتخابات البرلمانية برئاسة وزير العدل الحزبى الحكومى الذى من الطبيعي انه سيدين بالولاء لمن أتى به !, هنا تحرك نواب الحزب الوطنى منهم نواب الخديعة الذين خدعوا أبناء الشعب ونالوا ثقتهم بعيدا عن الحزب الوطنى ثم هرولوا إليه عندما إحتاج لأغلبية تمكنه من تمرير مخططاته وتحقيق مصالحه ومنهم نواب الأقلية الذين نجحوا وهم مرشحو الحزب بهلاله وجمله ومنهم عدد لابأس به قد نالهم عار التزوير واستحلوا مالا يستحقون هؤلاء جميعا هبوا لينفذوا المخطط الذى إتفقوا عليه عند الإعتراض على حديث المعارضين لسياسات الحكومة بالتشكيك والكذب والإفتراء والصوت العالى ولامانع من إهانة نواب المعارضةوذلك فى حماية رئيس مجلس الشعب وما تمنحه اللائحة من صلاحيات داخل المجلس تشابه صلاحيات رئيس الجمهورية فى الدستور !! وهو يعلم خريطة المتحدثين من الحزب الوطنى وما سوف يعرضونه ووسط هذا الصخب رفع الدكتور مصطفى الفقى يده طالبا الكلمة ورغم أنه غير مدرج أمام رئيس المجلس فيمن سيتكلمون وليس له دور مرسوم فى مناقشة هذه المواضيع التى لاتمس السياسة الخارجية وحفاظا عليه من تعليق هنا أو تلميح هناك قد تجرحه وتحرج الحزب الوطنى إلا أنه ربما كان مكلفا بامر ما ولامانع من السماح له فقال .. فليتفضل الدكتور مصطفى الفقى.... وهنا وقف بوجه حزين يصاحبه دائما ينظر إلى أسفل تارة ولرئيس المجلس تارة وكانت لحظات الصمت هذه كافية لشد إنتباه أعضاء المجلس جميعا ترقبا لكلمة نائب من نواب الأقلية! مما حدا برئيس المجلس أن ينبهه إتفضل إتكلم يادكتور فرد قائلا: السيد المحترم رئيس المجلس.. السادة الأفاضل أعضاء المجلس الموقر, أرجو أن تتاح لى الفرصة كى أدلى بدلوى فى قضية تمثل أهمية لطالما تكلمت عنها وكتبت فيها موضحا أن الإصلاح مطلب عام فى كل مكان وزمان وليس مطلبا خاصا بالشرق الأوسط, وأحب هنا أن أعيد على مسامع حضراتكم ما ذكرته مرارا من أن الإصلاح الشامل قد يقتضى فى مراحل معينة تغيير بعض القيادات ولكن القضية فى النهاية لاتقف عند هذا الحد , فالمهم هو تغيير السياسات وتطور الأساليب وشفافية الخطط ووضوح البرامج كما أننا نعترف أن تغيير الجياد التى تجر العربة يحسن أن يتم بطريقة شرعية وفى ظل ظروف طبيعية والمسألة فى جوهرها ليست عملية إستبدال للشخوص فقط ولكنها تغيير فى المناهج وطرائق التفكير وعناصر المواجهة ... هنا تدخل رئيس المجلس موجها حديثه للمتحدث :أين علاقة ما ذكره بما نحن بصدد مناقشته الآن من تعديلات تشريعية ؟ رد عليه قائلا : سيادة الرئيس يهمنا فى هذه النقطة بالذات أن أشير الى أهمية الإطار النظرى الذى تعتمد عليه بعض النظم وتكتسب منه مشروعية وجودها لذلك فإن الإصلاح الدستورى يمثل مدخلا تقوم عليه دعائم الشرعية وتستند إليه فلسفة الحكم , سيادة الرئيس إن دوائر الحكم المغلقة قد خلقت من السلطة فى العالم العربى مركز جاذبية لبعض عناصر الثورة وعنصر طرد لبعض عناصر الثقافة مما أدى إلى هوة بين المنتمين للنظم والأغلبية الصامتة التى إختارت اللامبالة طريقا وثرثرة النقد بديلا للتحرك السياسى أو العمل العام وقد يعترض البعض معللا أن أى حكم لابد له من دوائر مغلقة فالمطبخ السياسى فى النهاية يحتوى مجموعة صنع القرار وهذا أمر متفق عليه ولاجدال فيه ولكن المشكلة الحقيقية هى ديمومة المسئولين داخل الدائرة الواحدة بحيث يبقى بعضهم لما يقترب من العشرين عاما أو يزيد فى منصبه, وهو أمر يحتاج التأمل لأن عطاء المسئول فى الموقع الواحد لايمكن أن يكون متجددا ومؤثرا فى ظل ظروف الإستمرار الذى يجب أن يخضع لحدود العمر الإفتراضى لحماس البشر فى المنصب الواحد فإذا ما تجاوزوه فقدوا الصلاحية الذهنية وأصبح عملهم تكرارا رتيبا ليس فيه وجود للمبادرات الخلاقة أو الأفكار الجديدة فضلا عما يمثله ذلك من جناية على الأجيال الجديدة وحرمانها من فرص عادلة, وهو ما يجعلها بحق مثل من سكن فى الدور المسحور فى البنايات الكبيرة والذى لايقف عنده المصعد ويتجاوزه وصولا إلى أدوار محددة ! وهنا تدخل الدكتور وزير الحكومة والحزب الحاكم ليعترض على تجاوزه موضوع الجلسة وهو كلام سبق أن ردده من قبل دون جدوى والمجلس الموقر ليس لديه الوقت لسماع مثل هذا الحديث المكرر , وهنا قاطعه الدكتور مصطفى طالبا من رئيس المجلس حمايته وإتاحة الفرصة له لإستكمال نقطة أخيرة قبل أن يعرض مايريد .. فقال له رئيس المجلس إتفضل أمامك 3 دقائق ... فقال سيدى الرئيس لابد أن نعترف أن الديمقراطية فى النهاية غاية وليست وسيلة فقد توجد المؤسسات النيابية وتقوم البرلمانات الوطنية فى مناخ لاتشيع فيه ثقافة الديمقراطية ولاتعرف اطرافه معنى الحوار وفى هذه الحالة نكون أمام مسخ مشوه لتجربة جرى إجهاضها قبل ميلادها , فالعبرة ليست بهيكل تنظيمى ديمقراطى بعينه أو تجارب مستوردة ذاتها ولكنها فى النهاية هدف يرمى إلى تمثيل كافة القوى الموجودة فى الشارع السياسى لكى تتواجد بنفس الحجم فى مقاعد الحكم , سيدى الرئيس أقول الآن كل هذه المعانى وكل ما تعرفونه وتخفونه من أن الحرية تنتعش فى ظل دولة القانون حيث الضمانات تحمى الحريات والضوابط تحدد مساحتها والقواعد الملزمة تصون الحقوق وتنظم العلاقات .. هنا تدخل رئيس المجلس :يا دكتور مصطفى وبناءا عليه , فرد الدكتور مصطفى بناءا عليه ياريس فإن ماأعلنته الآن وكان يمثل ومازال فكرى ورؤيتى للعمل السياسى أمامكم أنتم نواب الشعب لكى تكونوا شهودا على عودة الدكتور مصطفى الفقى الى مكانته التى سبقت أحداث يوم 20 نوفمبر 2005 فى الإنتخابات البرلمانية الأخيرة .. هنا ياريس واليوم فقط أستطيع أن اتنفس بحرية وأن أشعر بنفسى التواقة دائما للحرية والعدالة والباحثة عن كرامة الوطن والمواطن , وأرجو ألا يقاطعنى أحد, اليوم أمامكم أقدم إعترافا صريحا بأن ما حدث فى الإنتخابات الأخيرة كان إستثناءا فى حياتى ,دخيلا على أفكارى ,مناقضا لمواقفى الوطنية, فلقد أراد البعض أن يورطنى فى واقعة تزوير تكفى كل لحظة فيها لتلويث محيطات العالم الطاهرة , ولعلها مؤامرة قد حيكت بليل للتخلص من وجودى المؤثر وطموحى الطبيعى المشروع, ولقد نجح هؤلاء فى إشاعة التوتر والصراع فى نفسى فلم أنعم من يومها برضا أو طمأنينة أو إستقرار, لقد كنت دائما أرى فى عيون من حولى الإعجاب والحب والسعى للتعارف والإحترام والتوقير وقد تبدل كل هذا ولم أعد أرى فى عيون من حولى إلا الإزدراء أو الشفقة و عدم الإهتمام أو الحرص على لقائى وأنا المفكر الذى يتحدث بما يجول فى نفوس شعب مظلوم يبحث عن حريته ويرقب حاضره ويتطلع إلى مستقبله, لقد صارت حركتى بعد هذه الإنتخابات صعبة وسط أناس كنت أتحرك معهم بحرية قبلها لقد صار إخطار الأمن بنزولى فرضا لاأملك ترف رفضه , لقد إنفض من حولى المحبون بصدق والمخلصون ورأيت فى السخرية والشماته فى عيون الكارهين , ونظرت حولى فلم أجد إلا أصحاب المصالح والمنافقين الذين اكلون على كل الموائد ويملكون وجوها كثيرة يبدلونها حسب الحاجة والإحتياج . سيدى الرئيس والسادة الزملاء نواب الشعب أعلن أمامكم أنى قد راجعت نفسى وساعدنى فى ذلك أهل بيتى الذى تأثر بما حدث وكذلك بعض المخلصين وقد رأيت أن أسجل فى مضبطة مجلسكم الموقر بعض المعانى التى رددتها طويلا وكنت لاأستطيع ذكرها بعد ما حدث وأؤمن بها ولن أتخلى عنها بل أتخلى الآن عن كل مالوث شرفى وسمعتى كمفكر , وها أنا أمامكم أعلن أن التعليمات التى صدرت إلى صديقى المستشار أحمد عبد الستار نصار والذى تم تعيينه فى هذه الدائرة تحديدا -والتى ترشحت فيها- لمواجهة المفاجآت التى قد تحدث ,هذه التعليمات السيادية وتلك التى أعقبتها من رئيس اللجنة العامة للإنتخابات بضرورة نجاحى مهما كان الثمن رغم الفارق الكبير بينى وبين المرشح المنافس وهو ما أصابنى بذهول من حيث النتيجة التى لم أكن أتوقعها بعد هذا المجهود الذى بذلته وتلك الأيام الصعبة التى عشتها وسط الجماهير المحرومة من الحد الأدنى من الحياة الكريمة ومن حيث التزوير الفج الذى أصاب أبناء مصر كلها وليس أبناء الدائرة فقط . إن هذه اللحظات التاريخية التى أعلن فيها هذا الذى كان يجب أن يكون عقب شهادة الدكتورة نهى الزينى ولم أستطع لكنى اليوم أرفع عن كاهلى أوزار وآثام أضطررت لتحملها طوال الشهور الماضية لعلى أنسى أو ينسى من حولى ولكن هيهات أن يضيع الحق أمام الباطل حتى لو كان متحصنا بإعلام كاذب أو واقع فاجر , واليوم وقضاة مصر يشهدون بالحق وقبل أن يتخذ القضاء قراره فإنى أرجو أن أمتلك زمام المبادرة تطهيرا لذاتى وتنقية لضميرى وحفاظا على تاريخى وحرصا على مستقبلى كمفكر هو أعلى لاشك من مقعد ملوث فى مجلس لم يدرك حتى الآن حقيقة الديمقراطية التى دعونا إليها دوما والتى هى المنقذ لسفينة الوطن من الجنوح أو الغرق, أعلن أمامكم فوز منافسى بحق وعن جدارة وهو أمر طبيعى لمن يحيا وسط الشعب وأرجو من أبناء دمنهور وزاوية غزال بل من كل شعب مصر بل من كل شعوب العالم أن يغفروا لى ما وقعت فيه وأطلب منهم أن يعبروا فوق ما حدث ليدركوا أن مصطفى الفقى لن يبيع ماضيه بحاضر ملوث ولن يغامر بمستقبله من أجل مقعد ملعون , هذه شهادتى أقدمها على الملأ تطهيرا لأيام وأحداث لوثت مصر وأهانت شعبها وجللت بالعار كل من شارك فيها والله على مأقول شهيد ... تكهرب الجو داخل المجلس منذ أن بدأ الحديث عن دور مؤسسة الرئاسة ووزير العدل فيما حدث من تزوير وعندها هتف الإخوان الله أكبر ولله الحمد وارتبك السيد رئيس المجلس وتمت إتصالات عاجلة بين النواب الكبار وآخرين خارج المجلس سمحت للدكتور مصطفى إستكمال شهادته وإعترافاته فى لحظة صدق مع النفس وبرأ نفسه وانتقلت الكرة الآن الى ملعب المجلس الموقر وهنا أعلن السيد رئيس المجلس أن ما ذكره السيد العضو ليس محله المجلس وإنما القضاء حتى يعرض الأمر طبقا للدستور على المجلس ليقرر صحة عضوية سيادة العضو من عدمه وأنه لن يترتب على ما ذكر أى إجراء داخل المجلس ... وهنا أخرج طلبا موقعا من عشرين عضوا –من إياهم- للإنتقال الى جدول الأعمال , وانتهت جلسة عاصفة تاريخية غير مسبوقة فضحت نظاما استحل التزوير كما إستحل التعذيب والقتل فى أبناء الشعب المصرى بإعتبارهم معارضين لنظام لايأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه !!!!!

وكما انتقل المجلس إلى جدول الأعمال إنتقلت أنا إلى عالم الواقع والحقيقة حيث صدر قرار من المجلس الأعلى للقضاء بالسماح لسماع أقوال السادة المستشارين الذين شهدوا واقعة تزوير إنتخابات دائرة العزة والكرامة وليس رفعا للحصانة كما علمت – ولكن تخوفت من هذا الإجراء لعدة أسباب منها أن الإجراء جاء متأخرا بعد أن هدد نادى القضاة بطلب تحقيق دولى فى وقائع عدة لم يحقق فيها النائب العام فما الذى حدث مجددا لهذا الإجراء ؟ ومنها أن المناخ الذى زورت فيه الإنتخابات مازال كماهو بل لقد ازداد سوءا ... فهل المأمول من هذه التحقيقات فى ظل العقليات التى تحكمنا أن يفتح تحقيق لانهاية له وهو مجرد فتح لاغلق بعده ؟ أم أن المطلوب هو تبرئة المزورين وحماية الآمرين به وتلويث سمعة الشرفاء وتضييع حقوق الشعب بإسم القانون ؟

إن قضية تزوير إنتخابات دمنهور وزاوية غزال قضية واضحة المعالم موثقة الشهود ولن تنفع المساومات التى تمت أحيانا أملا فى غلق ملفها وتركها للقضاء فهى قضية رأى عام , هى صراع بين الحق والباطل بعيدا عن الأشخاص والتوجهات ويبقى لدى كل الأطراف فرصة أخيرة مع هذه التحقيقات للخروج بشرف من هذه الورطة فهل يتغلب الضميرو العقل على النفس وشهواتها أم أنه لاحياة لمن تنادى ؟ والله يقول الحق وهو يهدى إلى سواء السبيل

drhishmat@yahoo.com

إضافة تعليق