أخلاق الإصلاح.."الزيني".. ناطقة بالحق خوفاً من الله

أخلاق الإصلاح.."الزيني".. ناطقة بالحق خوفاً من الله

وسام كمال*

24/11/2005

يتعرض المؤمن دائما لاختبارات قوة الإيمان، تضغط عليه بين حين وآخر، تختبره في دينه وولده وماله وعلمه، وكل ما أوتي بفضل الله. ووقتها يسأل المسلم الحق نفسه: ماذا لو ربح الإنسان العالم كله وخسر نفسه؟.

وقد يمتد الاختبار إلى الوطن الذي أعطى وبذل في تربية أبنائه، وعانى من سوء إداراتهم له. إذ تنكر البعض للفضل، ولم يسددوا بالعمل الصالح دين الوطن على رقابهم؛ كجزء من شكر المولى عز وجل.

فخضع البعض للرشوة، وساند البعض الفساد، وقبل البعض المهانة؛ تحت مبرر الضعف وتكالب ضغوط الحياة. ليصدق عليهم قول الله تعالى: {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف:17). والاستنكار الرباني: {هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} (الرحمن: 60).

ولكن خرجت من بين الضباب امرأة مصرية، مسلمة بحق، صدعت بكلمة الحق، في وقت كُممت فيه الأفواه بأحد السلاحين: سيف المعز أو ذهبه، كما أشارت في كلمتها. إنها المستشارة الدكتورة نهى الزيني نائب رئيس هيئة النيابة الإدارية بمصر، والتي شاركت في الإشراف القضائي على الانتخابات البرلمانية المصرية الأخيرة في دائرة بندر دمنهور.

وقفت د.نهى وقفة مائة رجل وهي تدلو بشهادتها عن مخالفات قانونية شهدت حدوثها في الرقابة على الانتخابات. تقطعت بها الأسباب لكي تحول دون وقوع الخطأ. ولكنها لم تصمت؛ بل شهدت شهادة حق تكتب لها عند ربها. وأبت أن تسكت على الباطل؛ حتى لا تنعت بوصف بعض السلف: "الساكت عن الحق شيطان أخرس". إذ تقف شهادة المؤمن له يوم القيامة، وتكون النجاة والشافعة له يوم لا ظل إلا ظله.

وهانحن نضع بين أيديكم رسالة المستشارة الدكتورة نهى الزيني التي نشرتها جريدة "المصري اليوم" القاهرية المستقلة، يوم الخميس 24/11/2005؛ فوضعت بها قُبلة على جبين الوطن. ننشر الرسالة لعلها تلتصق بذاكرة كل منا، ونتذكرها حين تلح علينا اختبارات الحياة:

نص الرسالة

لقد كنت هناك وشاركت في هذا الأمر. وهذه شهادة حق، إن لم أقلها فسوف أُسأل عنها يوم القيامة. ولا أقصد مما أقول مساندة أحد أو الإساءة إلى أحد. ولكنه الحق الذي وهبْنا له حياتنا، والعدالة التي أقسمنا على الحفاظ عليها.

وقبل كل هذا وبعده خشية الله الذي أمرنا ألا نكتم شهادة الحق، وأن نقولها مهما كانت التضحيات. والله إنه لا خير فينا إن لم نقلها، ولا خير فيكم إن لم تسمعوها.

توجهت إلى دمنهور للإشراف على الانتخابات التشريعية؛ التي أجريت يوم الأحد 20/11/2005 بتكليف من اللجنة العليا للانتخابات؛ باعتباري من أعضاء الهيئات القضائية.

كانت الرحلة ميسرة؛ فقد وفرت لنا اللجنة العليا كل شيء؛ من تذاكر سفر مجانية إلى إقامة على أفضل مستوى، إلى بدل إعاشة جيد، إلى سيارات بسائقين مخصصة لتنقلاتنا.

هذا فضلا عن مكافأة الإشراف التي سوف تصرف لاحقا بمعدل عدة آلاف من الجنيهات لكل عضو.. كل هذا من ميزانية الدولة؛ أي من أموال دافعي الضرائب، وهم الناخبون الذين دفعوا لنا كل هذا طواعية، مقابل أن نؤدي واجبنا، ونحمي إرادتهم من أي تزييف، ونحمل أمانة أن يمثلهم المرشحون الذين يختارونهم هم لا الحكومة في مجلس الشعب.

بدأ عملنا منذ الصباح الباكر في لجان الانتخاب، ثم بدأت عملية الاقتراع في الموعد المحدد بالضبط. وبالنسبة لي فقد ترأست إحدى اللجان الفرعية في الدائرة الأولى قسم شرطة دمنهور.

وقد سارت عملية الاقتراع على النحو المرسوم لها؛ في حضور مندوبي المرشحين ووكلائهم، ومراقبي منظمات المجتمع المدني. وقد بدا لي أن العملية كلها شفافة، وليس صناديق الاقتراع فقط حقيقة.. كانت هناك بعض السلبيات، ولكنها محدودة نسبيا.

وقام الأمن بواجبه في حماية اللجان خير قيام، وعند الظهيرة جاءت أجهزة الإعلام لنقل الصورة، وقلنا ما عندنا. وبدأ الأمر مثيرا للتفاؤل؛ فالعمليات بدت شديدة الجدية.

وعن نفسي بذلت ما في وسعي للقيام بواجبي، ولتجاوز السلبيات المتعلقة في مجملها بالأخطاء في الكشوف الانتخابية، وبعدم وجود بطاقات انتخابية وردية مع أغلب الناخبين. وعلى يقين من أن باقي الزملاء في اللجان الأخرى أدوا واجبهم بشرف.

بعد انتهاء عملية الاقتراع تم نقل الصناديق المبرشمة بصحبتنا إلى مقر اللجنة العامة في حراسة أمنية؛ حيث بدأ الفرز في سرادق واحد ضخم مفتوح الجوانب ومغطى السقف.

 وبدأت كل لجنة في عملية الفرز بحضور مندوبي المرشحين أيضا. وكان واضحا منذ البداية أن المنافسة على مقعد الفئات انحصرت عمليا بين دكتور مصطفى الفقي مرشح الحزب الوطني، ودكتور جمال حشمت مستقل مرشح الإخوان المسلمين، أو ما يطلقون عليه التيار الديني.

وكانت عملية الفرز علنية وعلى مرأى ومسمع من الجميع. ومنذ الوهلة الأولى بدأ تقدم جمال حشمت واضحا، ثم مكتسحا بفروق ضخمة عن منافسه. وكان مندوبوه في جميع اللجان يهللون فرحا بتقدمه.

بينما بدأ التوتر والتجهم واضحا على مندوبي مصطفى الفقي، ثم بدءوا في محاولة اختلاق المشاكل. ولكن الأمور سارت أيضا على النحو الصحيح. وقام رؤساء اللجان بواجبهم، وأنهوا عملية الفرز، ثم تسليم النتائج للجنة العامة. وبعدها انصرف أغلب رؤساء اللجان الفرعية، وبقي قليلون كنت منهم، ثم انصرفوا وبقيت حتى أُرغمتُ على الانصراف.

عقدت اللجنة العامة في حجرة واسعة تم إغلاق بابها. ومُنع الدخول إلا لرؤساء اللجان الفرعية لتسليم محاضر الفرز ثم الانصراف. وقد اختار رئيس اللجنة العامة عضوين بها من رؤساء اللجان الفرعية؛ أحدهما عضو بهيئة قضايا الدولة.

ولست أفهم رغم احترامي الشديد للهيئة العريقة ولأعضائها كيف يصلح محامي الحكومة لأن يتولى ما يشبه الفصل في منافسة تجري بين طرفين؛ أحدهما ممثل الحكومة!!.

وسوف أذكر فيما يلي ملاحظاتي:

* قمت بتسليم نتائج لجنتي متأخرة؛ لأنني أعدت الفرز حتى لا يبطل صوت صحيح أو العكس؛ أي أن نتيجة لجنتي إن لم تكن آخر نتيجة فإنها كانت من النتائج المتأخرة.

* كانت المؤشرات قرب النهائية القادمة من اللجان الفرعية تدل على أن المرشح جمال حشمت حصل على 25 ألف صوت على أقل تقدير، بينما حصل مصطفى الفقي على 7 آلاف صوت على أعلى تقدير.

* أثناء عملية تجميع الأصوات حاول المرشح جمال حشمت التواجد داخل اللجنة العامة، ولكن تم إخراجه منها. وخلال الفترة التي جلست فيها داخل اللجنة العامة -مع ملاحظة أنني بقيت حتى الانتهاء من تسليم جميع النتائج- كان بعض الموجودين سواء من القضاة أو غيرهم يستخدمون المحمول، ودار الحديث في مجمله عن تقدم المرشح جمال حشمت، واستخدمت في الدلالة على هذه العبارة "اكتساح".

 * تلاحظ لي وجوه أفراد من الداخلية داخل اللجنة العامة، كان أحدهم يجلس على طاولة التجميع، ويشارك في العمل. وقد أخبرني أحد أعضاء اللجنة العامة -الذي أدعوه للشهادة- بأنه من أمن الدولة.

* طلب مني رئيس اللجنة العامة الانصراف بعد مرور وقت ليس بالقصير فانصرفت وأنا متحققة من النتيجة. لذا كان تعجبي من صيحات التشكيك من أنصار جمال حشمت في الخارج، واعتقدت أنهم يبالغون كعادتهم؛ ففوز مرشحهم بات أمرا محسوما بالنسبة لجميع من شاركوا في العملية.

وكان هذا موضوعا للحديث بين الجالسين داخل اللجنة العامة؛ حتى قال أحدهم: "إن سقوط مصطفى الفقي سوف يقلب الدنيا".

* قبل الانتهاء من التجميع انصرف أحد أعضاء اللجنة العامة، وهو مستشار من رجال القضاء، وهو الشخص ذاته الذي دعوته قبل قليل للإدلاء بشهادته. وبعد انصرافي بدأت الأخبار تصلني بأن ما حدث في دائرة الدقي في المرحلة الأولى سوف يتكرر هنا، وأنه من المستحيل ترك مصطفى الفقي ليخسر أمام جمال حشمت.

 أنا هنا لا أتحدث عن رأي الناخبين، ولكنني أتحدث عما سمعته من رجال القضاء المشرفين على الانتخابات، وقد طلبت منهم قول الحق، وها أنا أدعوهم ثانية لشهادة الحق.

هذه شهادتي أدلي بها أمام الرأي العام وأنا أعلم تماما ما سوف تسببه لي من متاعب. ولكن ماذا لو كسب الإنسان العالم وخسر نفسه؟ ولكي لا يزايد عليَّ أحد أبادر بالقول صادقة: "إنني أخالف الإخوان المسلمين في الكثير جدا من آرائهم وتوجهاتهم".

وعلى المستوى الشخصي أعلم أن الدكتور جمال حشمت شخص محترم، وكنت أتمنى لو لم يكرر تجربة الانتخابات مرة أخرى بعدما حدث له في الدورة الماضية. أما وقد فعلها؛ فعلينا أن نحترم إرادة ناخبيه، وأن نحمل الأمانة التي كلفنا بها.

وأنتم يا رجال القضاء، يا أملنا في عالم أفضل.. لقد صدَّعتم رؤوسنا بالحديث عن القضاء الجالس والقضاء الواقف بالتشكيك في ذمم الناس على أساس الجلوس والوقوف. ولكنكم نسيتم نوعا ثالثا أخشى أن يزداد انتشارا وأن يسود؛ وهو القضاء المنبطح!!.

ولن أعتذر للكلمة ولن أسحبها؛ فأنتم تعلمون أنها كلمة حق. لقد خرج القضاة من مذبحة 1969 متطاولي القمة شامخي الهمة. لم يزلزلهم اغتيال حصانتهم وقطع أرزاقهم، بل ظلوا سياجا للحق والعدل.

غير أنه مع الأسف من لم يرهبهم سيف المعز تراخت إرادتهم أمام ذهبه وبدلاته ومكافآته وانتداباته في السلطة التنفيذية؛ حيث يتحول الجميع -جالسين وواقفين- إلى مرؤوسين لوزراء تنفيذيين منبطحين أمام توجهاتهم، حريصين على عدم ضياع مكتسبات مالية مُغرية، استبدلوها باستقلالهم وشموخهم وترفعهم عن الشبهات.

إنني ومن خلال هذا المنبر أدلي بشهادتي، وما علمته في واقعة تزوير نتيجة انتخابات الدائرة الأولى بدمنهور. وأوجه نداء إلى من شهد الواقعة، وشارك فيها بالإدلاء بشهادته أيضا. قال لي أحدهم لاحقا: إنه لا يستطيع أن ينام بعد ما حدث.

وأستصرخ همة القضاة الأحرار أن يتوقفوا عن المشاركة على الإشراف على الانتخابات؛ حتى ينالوا استقلالا حقيقيا يمكنهم من السيطرة الحقيقة والكاملة على العملية من أولها لآخرها، ولأن ينسب التزوير إلى غيرهم خير من أن ينسب إليهم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولكني لن أستغفره للذين فعلوها وشاركوا فيها وحضروها، حتى يثوبوا إلى رشدهم، ويقولوا قولة الحق، ويعلموا أنه لن يصيبني ولن يصيبهم إلا ما كتب الله لنا.

إضافة تعليق